التبويبات الأساسية

في أول أربعاء من أيلول سنة ١٩٢٠، شهد قصر الصنوبر إعلان ولادة لبنان الكبير من قبل مندوب سامي فرنسي "فخامة الجنرال غورو" (على ذمة السلطة المنتدبة) متوسطاً البطريرك الحويك ومفتي بيروت الشيخ نجا. وتتخطى ما تجمعه صورة هذا الحدث التذكارية أهمية الإعلان لأنها توثّق عاملين إثنين صبغا لبنان على مدى قرن من الزمن: الإرتباط بالخارج والطائفية وهما من أكثر تحديات هذا الوطن الصغير تأثيراً على نسيجه الداخلي وإنتظام عمل مؤسساته و هويته وسيادته.

إن إعلان دولة لبنان الكبير من قبل سلطة منتدبة أو وصيّة أو محتلة كما يراها البعض قدّمت نموذجاً عن كيفية الإستفادة من دعم قوى إقليمية أو مؤثرة في اللحظات التاريخية لمصلحة طائفة وإمتيازاتها وذلك على حساب المساواة في الحقوق والواجبات بين مكونات الوطن كافة. وشكّل ذلك سابقة إعتمدت عليه المكونات الأخرى في فترات متعاقبة من تاريخنا حين إنقلبت موازين القوى لصالحها. كما وأن إحاطة السلطات الروحية للمندوب السامي يومذاك ما هو إلا تكريس نظام طائفي إرتكز عليه زعماء الطوائف وأقطابها على مدى قرن من الزمن لتوسيع نفوذهم في الدولة وإحكام السيطرة على مفاصل النظام ومفاتيحه وصولاً الى تثبيت حكم فساد ومحاصصة أتى كنتيجة حتمية لهكذا نهج وممارسات.

إهتزّت فكرة لبنان الكبير الملجأ أو الملاذ لأقليات تتعايش سلمياً منذ ولادته عقب الإعلان عن ولادة هذا الوطن الصغير لأنه أتى بدعم خارجي مُقدماً للأجيال اللاحقة نموذجاً لوطن غير قابل للحياة يعتمد على الخارج أكثر مما يعتمد على تماسكه الداخلي. وتتابعت التحديات العاصفة بلبنان حتى يومنا هذا إلى أن انهار النظام المصرفي اللبناني في مئويته وهو أحد أهم ركائزه. كما أن إنفجار ٤ آب أظهر لبنان كدولة فاشلة لم يعد بإستطاعتها حماية سيادتها أو حتى ضمان سلامة مواطنيها. لم يسقط لبنان الكبير في ٤ آب فحسب بل سقط عند كل محطة هزت أسس قيامته منذ ١٩٢٠.

سقط لبنان الكبير عندما قَبِل شعبه بإختصار آلاف السنين من الحضارة والتاريخ والإنفتاح برجالات قزّموا حلم بناء وطن الى مصالح طائفية ومذهبية وفردية؛ وسقط أيضاً عند تغييب الديمقراطية على حساب حصرية تمثيل كل مكون بزعماء لا يخضعون للمساءلة والمحاسبة؛ وعند نجاح ممثلي الشعب في إستثمار قدراتهم في التحريض الطائفي حماية لتسلطهم وفسادهم؛ وعند كل تعديل للدستور لأسباب فئوية على حساب المصلحة الوطنية.

سقط لبنان الكبير عند إختلال المشاركة الحقيقية في الحكم لصالح إستئثار المكون الواحد بالسلطة خلال فترات متعاقبة من تاريخه؛ كما سقط عند استعمال كل مكوّن فائض القوة لديه ليحول مناطقه إلى مستعمرة تحمي نفوذ الطائفة بدل أن يكون وطناً مفتوحاً أمام أبناءه؛ وعند استبدال قيم التسامح والتعايش بثقافة النهش من الآخر تحت ستار حقوق غير مشروعة للطوائف.

سقط لبنان الكبير عند اغتيال اقلامه الصحفية بعد احتجاجها على بطش نظام وقمع أمني وإحتلالات؛ وعند تنكّر السلطة لحق المواطن اللبناني بالتظاهر وممارسة العمل السياسي دون اضطهاد وقيامها بإعتقال الناشطين ومنتقديها من دون مسوغ قانوني؛ وأستمر السقوط مع فشل مدارسه وجامعاته في تخريج تلاميذ وطلاب يؤمنون بالحوار وبإحترام الاختلاف والتعايش الحقيقي؛ وعند عجز الدولة في تعزيز المواطنة الفاعلة على حساب التبعية لزعيم أو طائفة.

سقط لبنان الكبير عند استبدال البحبوحة بأحزمة فقر حول العاصمة والمدن الرئيسية؛ وعند كل وعد بإنماء متوازن للمناطق لم يتخطى حدود العاصمة؛ كما سقط أيضاً عند تحويل نظامه الاقتصادي الحر الى إحتكار مقنّع تستفيد منه فئة صغيرة جداً من الناس؛ وعند الفشل الذريع بإحقاق المساواة بين المواطنين وتعزيز العدالة الإجتماعية؛ ومن خلال فرض عقلية التاجر والمقايضة عند محاولة بيع مقدرات الوطن وأملاكه العامة إلى من إئتُمنوا على حمايتها.

سقط لبنان الكبير عند إقرار قسم من المواطنين بأن العديد من البلدان العربية والأجنبية اهم اليهم من بيروت؛ سقط عند تحميله وحده أعباء الكفاح المسلح للثورة الفلسطينية على حساب حماية وجوده وحدوده وسيادة أراضيه؛ وعند تفضيل البعض خيار الحرب الأهلية لقلب موازين القوى وصولاً لفرض التغيير الديمقراطي بالقوة.

يقف لبنان اليوم على مفترق طرق وهو ليس الوطن الذي احببناه أو الذي نحلم ان نعيش فيه. فبعد مجاعة وحروب، وإنتدابات، عشنا ضياع الإنتماء الى محاور متعددة، والإنقسامات عبر تكريس الطائفية والفتن الداخلية، واستباحة السيادة من جراء إحتلالات ونشوء ميليشيات وصولاً الى إهتراء البنية التحتية والخدماتية وتراكم الدين العام وتفشي الفقر والفساد. فما نفع أن يكون لبنان كبيراً من دون أن يحافظ على أي من الأسس التي بني عليها؟ وعلى حجم السقوط الكبير تكون الأحلام. ومن هنا، لا خيار أمامنا كمواطنين إلا أن نحلم ببناء وطن بلا نزاعات داخلية، بلا جريمة منظمة، بلا تمييز، من دون فساد أو إرهاب؛ وطن هو نقيض ما عشناه خلال المئة سنة المنصرمة.

اليوم، وبعد مرور ١٠٠ عام على إعلان دولة لبنان الكبير، سندافع بشراسة عن السلام والشراكة الحقيقية والمساواة أكثر من أي يوم مضى عبر إرساء دعائم دولة عريقة تتعلم من دروس الماضي؛ دولة مدنية تُلغي سيطرة زعماء الطوائف واقطابها عليها، وتحدُّ من تأثير الدول الاجنبية على النظام والمجتمع؛ دولة تحارب الفساد من خلال تعزيز الديمقراطية والمحاسبة وإستقلالية القضاء وترسيخ ثقافة القانون والمؤسسات واعتبار الانسان الخط الاحمر الوحيد. وبالإضافة الى ذلك دولة تعمل على تمكين المجتمع من إستعادة قدرته بالدفاع عن نفسه عبر تعزيز مبادىء العدالة الإجتماعية والحرية وتثبيت حقوق الإنسان.

إذا حملت سنة ١٩٢٠ معها نشوء لبنان الكبير، أضحت ثورة ١٧ تشرين في مئويته أملاً ببناء لبنان جديد ينبثق عن تلاقي الساحات وتفاعلها لتحقيق إطار دستوري مدني في مواجهة الطائفية والتبعية والفساد وشريعة الغاب والعجز في إدارة المؤسسات وخروج الوطن ممزقاً من جراء نزاعات تنافسية عبثية بين سياسييه.

ثورة ١٧ تشرين دفعتني لتخيّل الأول من أيلول من سنة ١٩٢٠ بمشهدية مختلفة تماماً – إرادة لبنانية خالصة وحرة من أي وصاية تُعلن بنفسها بناء وطن جديد؛ يرتكز على إعادة تكوين السلطة عبر إنتخابات نيابية تصحّح التمثيل وعلى تنوعٍ جندري يمثّل بواقعية طاقات المجتمع العاملة مقابل ذكورية مهيمنة عجِزت في المئة سنة الماضية عن إيجاد حلول؛ ويعمل على تعزيز قيم إنسانية جامعة تحمي حرية المعتقد بدل المحاصصة الطائفية. وكل ذلك لكي نجعل من لبنان وطناً حقيقياً يليق بنا ونستحق العيش فيه بكرامة وعدالة ومساواة، لا أطلال بلد يحتضر ويُحضّر شبابه للهجرة منذ نعومة أظافرهم. علمتنا "١٧ تشرين" أن الحلم والأمل هما من أفضل الأمور التي لن تستطيع سلطة فاسدة إزالتها من نفوسنا. أما نجاحنا في تحقيق هذا الحلم فيعتمد على ما سيفعلونه شابات وشباب الوطن في المرحلة القادمة. وأنا متأكد من أنهم، كما في ١٧ تشرين، لن يخذلونا.

صورة editor3

editor3