احيت الجمعية الخيرية الاسلامية العاملية، يوم العاشر من محرم في احتفال اقامته في مقرها الرئيسي في بيروت، بحضور الرئيس حسين الحسيني، وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، الوزير السابق فوزي صلوخ، النائب السابق ادمون رزق، المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان رئيس مؤسسات المعهد العربي النائب السابق حسين يتيم، النائب السابق عدنان طرابلسي، القنصل سالم بيضون، اللواء علي مكي، العميد فايز رحال، رئيس الجمعية الخيرية الاسلامية العاملية محمد يوسف بيضون، وحشد كبير من الشخصيات السياسية والدينية والتربوية والاجتماعية.
قدم الاحتفال مدير مكتب الجمعية الخيرية الاسلامية العاملية محمد موسى حماده ثم آيات من القران الكريم للمقرىء صلاح يموت، ثم كانت كلمة للشيخ قبلان قال فيها: "لأن القضية قضية أمة والمشروع مشروع إنسان، كان لا بد من تضحية استثنائية تهز مشاعر الأمة لتقرأ الله والإنسان من جديد، لأن عقلية السلطة آنذاك كانت تعتقد بملكية الحقوق وسخرة الإنسان وكل معاني الاحتكار الشمولي، فكان لا بد من شعار: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، ألا واني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر، فمن كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله). بهذا الإطار افتتح الإمام الحسين مشروع النحر المحمدي الذي هز العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وكان من بين تلك الشعارات، أن الحاكم الفاسد الظالم لا يصلح دليلا لأمته، ولا أساسا لحكومة العدل، ولا شرطا لما أخذه الله بحق الناس. من هنا حين تدخل رجال النظام الكبار ليمرروا كلمة البيعة على لسان الإمام الحسين، امتنع بشدة لأنها أكبر سر الله، وأعظم مواثيقه، وأهم ما لله في خلقه، لذا لا تصح إلا لعادل عارف، ومعها تصبح القضية "كيف يتحول الإنسان جزءا من قداسة الكون ومشروع الله الأكبر لتحقيق كرامة الإنسان وكماله"، لا أن يتحول جزءا من أرباح السلطة ومغانم الصفقات. لأن الله قرر الدنيا للانسان، ولم يقررها مغنما للسلطان".
أضاف: "ولأن السلطة تشكل الهيكل الأساس لإدارة الاجتماع السياسي والشراكة الإنسانية، فهذا يعني أن عقلية تملك الناس واحتكار عقولها ومواردها وتحويل السلطة إلى كنز امتيازات ومشروع أرباح سلطوية ومغانم شخصية على حساب (ولقد كرمنا بني آدم) يعني أن الإنسان تحول فريسة لمخالب من يحكم. وهذا ممنوع مطلقا بمشروع الإمام الحسين، لأن مركز أطروحته عليه السلام تمثلت بقوله تعالى: ولا تعيثوا في الأرض مفسدين)، ومبدأ(أصلحوا)، وشعار(تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله)، لذا حين توسله كثير من الصحابة أن يحفظ نفسه الكريمة عن القتل تلا قوله تعالى:(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، مع أن العقل السلطوي آنذاك كان يتعامل مع أي ممتنع عن البيعة بالقتل والبطش العنيف، وبالأخص مع الإمام الحسين لأن الشام كانت تعتقد أن امتناع الإمام الحسين عن البيعة يعني أن أكبر شخصية من بيت رسول الله تسلب أصل الشرعية عن دولة الشام العملاقة وهذا أمر كارثي بمفهوم السلطة، لذلك هدد بالقتل والبطش والتنكيل فقال:(شاء الله أن يراني قتيلا وأنا ماض إلى مقتلي الذي وعدني الله ورسوله)، ثم تلا قوله تعالى: (وفديناه بذبح عظيم). لأن دما بحجم دم الإمام الحسين سيهز أركان أكبر دولة كانت تحكم الأرض آنذاك، وهذا ما حصل، حتى قال القائل: عجبا لدم الحسين فعل ما لم تفعله أكبر الجيوش في طواحين القتال. لذا مع مقتله الشريف خرجت الأصوات بمكة والمدينة وغيرها من مراكز القوة الروائية والفقهية والنفوذية لتقول: لا للسلطة التي ترفع رأس ابن بنت رسول الله على رأس الرمح، لا للحكومة التي تعتقد أن السلطة مصدر الشرعية، لا للسلطان الذي يعتقد أن الحقوق منحة وعطاء، لا لسحق صوت الله بخلفية تنفيذ مشيئة السلطان. وعلى الأثر ثارت المدينة المنورة وتضعضعت مكة واضطربت النواحي، وكل يقول: "يا لثارات الحسين"، يومها قال أنس الصحابي: (لم يكن شيء ليحرك هذه الأمة من سباتها لولا دم الحسين)".
وتابع" "أما الإمام الحسين، فمنذ أول لحظة رفع شعار أن الأرض لله، والخلق عياله، وأن السلطة مشروعة بمقدار خدمة عياله، وأن الناس سواء، لا فرق بين أسودهم وأبيضهم وعربيهم وعجميهم إلا بالتقوى، وأن الناس لآدم وآدم من تراب، وأدان بشكل صريح السلطة كمشروع ابتزاز، والدولة كصيغة للملكيات الخاصة، والشرعة الحكومية كأساس لبرامج تقوم على الولاءات والأتباع، لأن الدولة التي لا تضمن جوع ووجع وهاجس وقلق وضعف الإنسان وحاجاته المختلفة لا تصلح دولة لعدالة الإنسان.
ضمن هذه البيئة كان الإمام الحسين يريد لدمه أن يعمد الأرض ويسقي الحقيقة ليخرج الإنسان من حد التبعية العمياء، لأن دولة الحقيقة تقوم على الأساس الفكري والحقوقي والبرامج الضامنة لحاجات الإنسان، لتصبح المعادلة وفق مشروع الإمام الحسين: (دولة الإنسان لا إنسان الدولة)، لأن الله قرر مذ خلق الخلق: اخدموا رعيتي، وامنعوا الظلم، والبسوا الحقيقة، وانزعوا الباطل من أصله، ولا تستبدوا، وكونوا للظالم خصما، وللمظلوم عونا، وأحقوا الحق، واطردوا الفاسد والمتملق، ولا تركنوا إلى معتد وجبار، ولا يمنعكم الخوف من الانتصار للحقيقة، وجاهدوا بكل ما أوتيتم، لأن الحقيقة تموت بسكوت أهلها".
وقال قبلان: "وهو مرادنا اليوم من مشروع العائلة الواحدة في لبنان، بخلفية أن الإمام الحسين أكد فينا مقولة (شراكة الناس والنظارة في الخلق)، وهذا يفترض تأكيد روح الأخوة، ونزع الفرقة والأرباح المتفاوتة، والكف عن خطاب الحقد والأنانية، لأن الرب واحد، والوطن واحد، والفطرة واحدة، وما يصلح عدلا لفرد من هذه العائلة يصلح عدلا لجميع أفراد العائلة التي يتشكل منها لبنان.
وبهذا المعنى ندعو المسلمين والعرب الى أن يعودوا إلى الله وإلى فطرتهم، لأن القضية قضية كيف نجتمع بالحق لا أن نتفرق بالباطل، وليس صحيحا أن الخلاف في المنطقة ديني أو مذهبي، بل سياسي بحت، ويوم تربح السياسة فهي ليست من الله بشيء، إلا أن تكون السياسة خدمة لعيال الله، وهي ليست كذلك بمشاريع من يريد احراق المنطقة وإبادة أهلها.
لذلك نحن مع دم الإمام الحسين الذي سفك لحفظ الحقوق وتوحيد الأمة ومنع النزاع والظلم والفساد ومشاريع الانتقام والحقد، لتعود الأمة إلى قول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، لأن فتنة الدم تبدأ بفرقة العقول واختلاف الأهواء ولعبة الانتماء، ولا نريد لبلادنا أن تكون ضحية البيع والشراء.
وعلى المستوى الوطني نحن مع لبنان العائلة الواحدة بكل ما يعنيه هذا الشعار بخصوص "شراكة المنافع والأعباء"، وبهذا الإطار نطالب بتأمين وفاق وطني لانتخاب رئيس جمهورية يجمع مكونات هذه العائلة الوطنية ولا يفرقها، ونؤكد على ضرورة اعتماد قانون انتخاب نسبي لأنه الأكثر تأمينا للشراكة الوطنية بين أبناء هذا الوطن وقواه في ظل حرائق إقليمية ودولية تكاد تأكل روح الأمان لكل بلدان المنطقة".
وختم: "نحن مع لبنان السيد المستقل والمستقر، لبنان المسلم والمسيحي، الشيعي والسني وكل المكونات، مع الشراكة الاستراتيجية الضامنة بين الجيش والشعب والمقاومة، مع وطن الشراكة بالربح والخسارة، لأن الشمال لا يعيش إلا بالجنوب والبقاع لا يعيش إلا بالجبل، وبيروت لا تكون بيروت إلا إذا حفظت الجميع.
قالها الحسين قبيل الذبح: اتقوا الله، فإن حب الأوطان من الإيمان".
بيضون
وتحدث بيضون فقال: "ان الامام الحسين عليه السلام هو امام الاحرار وسيدهم، وهو ابن امام المتقين، وابن سيدة نساء العالمين وسبط النبي رسول الله للناس اجمعين كيف لهذا الامام العظيم ان لا يستجيب لنداء المنادين ان اقدم يا ابن رسول الله تجد معك الوفا مؤلفة، وما الكتب التي راسلت اليه الا الدليل لتلك الاستغاثات التي غطت ارجاء العراق وتحديدا كوفة الكوفيين اهل النفاق والشقاق.
وكربلاء كانت مفصلا انسانيا عظيما، تجلت الانسانية فيها بابهى واسمى صورها من عزيمة وشهامة وبطولة ووفاء وايثار، وعند ضفة نهر الفرات حيث استقر جيش عمر بن سعد تجلت كل اشكال الحقد والكراهية والظلم بمنعهم الماء عن الحسين واهله واصحابه هذا امر، لما الامر الاخر الذي يتنافى مع الاخلاق والقيم والشهامة العربية والاسلام السمح، هو التمثيل في جثث الشهداء وقطع رؤوسهم ورض صدر الحسين عليه السلام بحوافر الخيل بعد استشهاده لكان جيش ابن سعد سن سنة غريبة مستهجنة في تلك الممارسات البعيدة عن الاسلام والشريعة المحمدية، وهذا ان دل على شيء انما يدل على عمق الحقد الدفين في نفوس اولئك الاوغاد الظلمة من اجلاف الكوفة وقادة الجيش الاموي".
واضاف: "والامام الحسين عليه السلام لم يرفض بيعة يزيد لاسباب سياسية سلطوية دنيوية، بل لان يزيد احدث شرخا كبيرا في الرسالة المحمدية وانحرف عن الاسلام وتعاليمه السمحاء كل انحراف، وطغى وبغى وظلم واستبد فحق على امام الزمان ان ينهض لمحاربة هذا الانحراف وليس خروجا على امام زمانه يزيد بن معاوية ويزيد اقل ما يقال فيه: ان فاسق فاجر يقتل النفس المحترمة ولا يعير للاسلام اي اعتبار فالخمرة عنده افضل من الصلاة وصوت الغانيات المغنيات افضل من صوت الاذان، وهذا داب المتهتكين العابثين، اننا ان يقول قائل: ان الامام الحسين عليه السلام كان مغامرا في نهضته فهذا دهل وافتراء، وقول لا يداني الحقيقة، ولو كان الامام الحسين مغامرا كما يدعي البعض او كان مندفعا الى امر غير محسوب لكان طلب النجاة لنفسه ولاهل بيته واصحابه وكان له ما يريد.
وقوله المأثور: ان الدعي ابن الدعي ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيات منا الذلة؟ هو دليل قطاع على دحض مقولة الاحجام والتراجع والانهزام، لانه كان يعلم بعد مقتل سفيره، الى الكوفة (مسلم بن عقيل) وانقلاب الجماعة عليه ان المعركة العسكرية ليست لصالحه، انما النصر الحقيقي والمعنوي هو للاسلام ولنهضته، ونهجه، وقد اثبتت الايام هذا الراي".
وقال بيضون: "ان قيام الامام الحسين بنهضته المباركة كان لزاما وتكليفا الهيا لبقاء دين الله، وبقاء كلمة لا اله الله محمد رسول الله، هذه الكلمة المقدسة دونها مهج وارواح ودماء زكية سفكت في العاشر من المحرم فوق ثرى كربلاء فانتصر الحسين عليه السلام وانتصر اهل بيته واصحابه، واستحقوا جميعا رضى الله ومرضاته وهم في جنان الخلد خالدون، اما اعداؤهم فلهم الخزي والعار وسخط الله وهم في جهنهم وبئس المصير.
فاين قبر يزيد من مرقد الامام الحسين، واين قبر الشمر من مرقد العباس، واين قبر شبث بن ربعي من مرقد حبيب وزهير ومسلم والحر الرياحي واين واين واين.
اليك نأتي في كل محرم، نلثم جراحاتك الشريفة من تحت قميص الخز المصبوغ بدم الطهر، نلامس جسدك المنغرس في رمال الطف، فنرى نخيل العراق دامع العين، واجم الوجه، مكلوم الفؤاد يطرح ثمرا غضبا لا رطبا شهيا كربلاء هي دورة العمر المعفر جباه الشرفاء بفتيت المسك وعطر الحياة، هي انشودة السماء والملحمة الخالدة على مر العصور.
اليك نأتي في عامنا هذا ممجدين ذكراك، ذكرى خروجك المؤزر على الظالمين الناكثين السافكين دماء الاخيار والاحرار، وانت سيد كل حر شريف ينهد لكل فدم غاشم تجلبب بجلباب الدين، ألغيرك ترفع رايات النصر والفخر والاعتزاز؟ ألغيرك تنصب السرادق وخيام الجود والبذل والعطاء، وترفع قباب المجد وانت للمجد ميمه وجيمه والدال".
وأردف: "نعم، انها مناسبة لاتحدث عن فراغ في كرسي رئاسة الجمهورية، هذا الفراغ يشكل حالة غير مسبوقة في بلدنا قد يعود سببها الى طباع اللبنانيين المعروفين بأنانيتهم.
هذه الحالة قد تسببت باضرار حلت على البلد، فالاقتصاد في انحدار والحالة الاجتماعية في تدن فلا استثمار يخفف من البطالة وطبيعي في مثل هذه الحالة ان يزداد الفقر بين الناس كان الله بعون الناس، نسأله ببركة هذه المناسبة ان يلهم جميع رجالات لبنان صحوة العقل، واعتناق المحبة وسلوك درب المتقين الخائفين على مصير الوطن وضياع الكيان.
لا تسمحوا للفرقة ان تتمادى بين صفوفكم، العالم يحسدكم وغيركم يتمنى لو ولد فيه، انه جوهرة بين ايديكم، فلا تكسروها ولا تدعو الضرر ينال منها، بل حافظوا عليها ولا تدعوا السياسيين يتلاعبون بها، هي امانة اودعت لجيلكم كي تضعوها بدوركم في أيدي الجيل اللاحق بكم، ليس لاي منا الحق في التصرف به او في المس من خصوصيته فعلينا ان نسلمه لمن يدعنا كما تسلمناه ممن قبلنا، وهكذا الى يوم القيامة انشاء الله".
درباس
وألقى الوزير درباس كلمة قال فيها: "هتف لي وقال: (أنا أبو يوسف، وانت خطيب في احتفال العاملية). تلبستني مهابة الذكرى والمكان، وأقلقتني المسؤولية، إذ منح لكلمتي على منبر العاملية شرف المناسبة وكرامة حضورها، فلها من جبل عامل فقه كربلاء، ومن ثورة الحسين الشاهد والشهيد، قدوة في سجل العطاء الذي تحفظه وتنميه المحسنية اليوسفية، منذ انطلقت بدفع من الفقيه الامام محسن الأمين، ودفق عطاء من الجد يوسف بيضون الذي أثرى مناخ حديقة بيروت، فاكتمل بها تميز العاصمة الاجتماعي، مسلمين ومسيحيين".
واردف: "لقد غدت ثورة الحسين نموذجا برسم الماضي، وبرسم المستقبل في كل جيل، وهكذا طبعت على صفحة التاريخ إنجازها ممزوجا بعاطفة الولاء، عودة روح في حزمة الذكريات، ثقافة ومنهجا، فغدت الروح قرين العاطفة، ودمعة كربلاء انفعال إحساس وقوة دفع أربى على مجرد تأمل عقلي، فليس المهم أن نعرف ما حدث، بل أن نضع في كل طارىء جديد للحدث دلالته في فقه الأمور كما يقول سماحة الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين طيب الله مثواه، ويضيف:
(إن المناسبة تؤسس إلى ما يتجاوز الفعل إلى مدلولاته في مناسبات كثيرة، وقيمة فقه الحاضر، ومنطق القيمة الفاعلة والمنفعلة، فالحسين لم يخرج بطرا، ولا أشرا، ولا ظالما ولا مفسدا، وإنما هو خروج من أجل العدالة، والدفاع عن القيم".
هكذا يتخذ الإمام شمس الدين من كلام الحسين إرشاد القيمة العليا للمسلم الاجتماعي الذي بني على ديمقراطية التسليم لله.
فكربلاء هي القيمة العليا المجردة التي ترتكز عليها شريعة الإسلام الابراهيمية، وذلك لما يختزنه فقه القيم في دموعها ودمائها، دفق عاطفة مجبولة بالحب، هي الاساس لعمق الإيمان، تلك هي عاطفة الانتماء إلى النظام الالهي التي ترجمتها كلمات الحسين في خروجه، إنها العدالة والاستقامة، والدفاع عن سواسية التسليم الذي أسس لموقع الفرد، طاقة مسؤولية عن الجماعة، إنها ذلك السمو الإنساني في كونية الحب التي حن إليها جلال الدين الرومي في أنشودة الناي حين غنى حزن الفراق عن أصله في الطبيعة ونظامها".
وتابع: "ألسنا في هذا المجلس نحن إلى ذلك الأصل، أصل الحنيفية السمحة التي حمل رايتها الإمام الحسين، نحن لنستعيد حضورنا الإنساني، قيمة، تؤسس لذلك الفجر الرسولي، بناء وتسليما لله، لنعود بذلك الحضور قيمة في هذا الكون، وليس طاقة قوة تهدم على رؤوس أهلنا بلادنا، بلاد الشام وأرض النبوة، بطرا وأشرا وظلما وإفسادا على حد تعبير سيد الشهداء.
إن تدمير الحواضر، لا يمحوها من صحائف التاريخ ولا يقيم فوقها حضارة جديدة تدبر على عجل، هنا لا بد من الإشارة إلى أنه لن يكون أي شبر من لبنان حقلا لفسائل مقتلعة من أرضها الطيبة، فالشعب السوري متمسك بوطنه ودولته، مثلما هو الشعب اللبناني، يضيف ويستضاف، لكنه بالمرصاد لرسامي الخرائط الجديدة، فسوريا التي ألحقت الدنيا ببستان هشام ستخرج من هشيمها، والورق الذي ينتزع من شجره لا يحيا في شجرآخر، كما أن المضيف الكريم يؤمن بأن قمة ما يقدمه لضيفه، تسهيل عودته الآمنة والكريمة ليعيد بناء بيته المدمر.
إنها رسالة الحب، وجمالية النور، وضوابط النظام الكوني، وكرامة الإنسان، كربلاء الشهادة".
وتابع درباس: "يقول المفكر الكبير الاستاذ عمر مسقاوي: إن شعار حوار التعايش هو التفسير لمفهوم الدين في وظيفته الاجتماعية والثقافية، وهو التعبير عن وحدة الثقافة حين تبحث في مكوناتها الروحية في علو مقامها، إذ كلما ارتفعت القمم تقاربت المسافات بينها، فالحضارة هي التي تطبع عبر الثقافة مناخا نتنفسه بطريقة عفوية غير إرادية، فأساس مفهوم الوطنية يطرح للمسلم، كما للمسيحي مشكلات السكنى لا المساكنة، ومن هنا فالإيمان في ضمير المسلم كما في ضمير المسيحي، هو استلهام القيم المطلقة للدين باعتبارها صدى للنظام الكوني المندمج في الحياة الإنسانية.
خرج الحسين وهو يعلم أن الدعي قد أعد للمجزرة عدتها لكنه كان يعلم أيضا أنه هو المنتصر، إذ لم يكن يسعى لملك، بل لمساحة فداء، ولا ليقبض على الجغرافيا بل على التاريخ، ولا ليسكن القصور بل العصور، وهذا ما يخلق بسبط الرسول الأعظم، ابن الزهراء والإمام، وزهرة البيت الذي وهبه الله خلود الآخرة فترفع عن الأولى وغادرها راضيا مرضيا، مثلما غادرها جده وأبواه إلى سكنى قيم لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم".
وقال: "ليس الحسين إماما لمذهب، فعنه أخذت المذاهب، ولا مرجعا لطائفة، لأنه يوجه رسالة إلى المسلمين جميعا وإلى الانسانية بتنوعها، وفي هذا يرى الإمام محمد مهدي شمس الدين أن القرآن يمنح لكل عصر حدود ثقافته وضروراتها الانتاجية، وإذا كان الفقهاء المسلمون قد حددوا آيات الأحكام بخمسمائة، وبضع آيات، فإن التدقيق لدى الإمام، ينسحب، والله أعلم، إلى ما يجاوز الألف، لأن لكل حركة فقها، ولكل سياسة ظهيرا في عمق المنطلقات الكونية العامة التي جمعتها رسالة الإسلام، فلا يجوز للفقيه الشيعي أن يقتصر في تعامله مع السنة على ما ورد عن طريق أهل البيت ويهمل ما روي منها عن طريق الصحابة، والأمر نفسه بالنسبة، للفقيه السني في اقتصاره على ما روي عن طريق الصحابة فقط، فالفيصل في الأمر كله هو حصاد الرواية وتضامن الضعيف المروي مع القوي منه. من هذا الفقه الحصيف يمكننا اختيار ما يحقق مصالح الناس، فحيثما تكون مصالحهم ثمة شرع الله، وفق القاعدة الشرعية".
واضاف: "إن فكرة الانسجام بين الدين والدولة تكون بإحلال التناغم بين الوسائل التي تستخدمها الدولة والغايات التي يهدف إليها الدين، وهذه الخلاصة تدعو الطيور جميعا التي تسبح في فضاء الوطن، وتسبح فيه، والتي لا تنزل إلى الأرض إلا للتزود من حقول المصالح، أن تحط على الأغصان لتنشد نشيد الصباح والمستقبل.
إن الدولة التي هانت على طوائفها، واستسلمت لها أو كادت، تسرع بلا هدى نحو فقدان فضائها، وتجريف سهولها، وتجفيف أنهارها، وتسميم هوائها، تلويث أسماعها بفحيح عجبت من نقعه الأفاعي.
ان جلال المناسبة يصرفنا عن سجال الماضي وسجال الحاضر السياسي في بئيس ثقل حملا.
وما أبو يوسف إذ آثرني محدثا اليوم في كربلاء العاملية إلا نجوى مدينتي طرابلس وشمالها، مدينة بني عمار الذين لم يتركوا فيها حسينيات إلا مجالا لواسع محج لأبي العلاء ثم للمتنبي مسار محط أدب قصر عنه غابر الشعر وحاضره.
فحب آل البيت راسخ في كل بيت، مودة قربى تجهش لها الأجيال، قربى ذلك الوصال الآلهي برسول الله عروة في محكم التنزيل تفكك على منابر القتنة في مهيض جناح الوحدة.
ولكي أستعيد روح الذكرى والامل الواسع في إيماننا، أحببت أن اسمعكم أبياتا من المحامي والقاضي والفقيه، والنائب والمفتي والشاعر الفذ الشيخ نديم الجسر رحمات الله عليه، نظمها عندما فاض نهر أبي علي في العام 1956، فأوقد في قلوب الطرابلسيين حرقا فقال:
تزول وتنقضي غصص الليالي، وغصتك الأليمة لا تزول، بلغت من الأذاة أبا علي حدود الحقد يسعفه الدليل، فهل كنا الألى قتلوا عليا، فطل دماءنا ذاك القتيل، ونحن على محبته نشأنا، ولسنا عن محبته نحول، بشيعته بني عمار سدنا، فساد الجود والكرم الأصيل، كأني الآن بنهر أبي علي يرد علينا عتابنا ويقول إن أصله متصل بالوادي المقدس (قاديشا) وموجه حبك من قطن الثلج الذي ندفه الرب في أرزه، وبسطه جبة طاهرة لأبناء تمزق طهارتهم أسباب يخجل منها القرن التاسع عشر".
وأردف: "ينتاب مجتمعنا قلق مقيم عميق، وتؤرجحه الهواجس بين مهب الأخطار، فتلتهب الحناجر، وتلتمع الخناجر، لكننا نجد دائما من يلجئنا إلى الحوار، لإطفاء النار، ولكننا لا ننفذ إلى قرار، في الوقت الذي نهمل فيه تراثا كان الحسين من ابرز فرسانه، هو تراث القيم التي تؤلف قلوب المختصمين.
يقول الفقيه الفرنسي فرانسوا بيرو:(ومهما نسي الحوار منابعه في الفكر الغربي، فهو يحتفظ بصفة مميزة، لأنه لا يهتم بفردين فقط، بل يفترض ثالثا هو قيمة فوق التاريخ،
إنها قيمة الحقيقة والعدالة).
بالأمس قلت في الرابطة المارونية: لبنان وطن مملوك على الشيوع، لأبنائه جميعا، كل لبناني له في كل ذرة منه، وهو غير قابل للقسمة العينية أو قسمة المهايئة، ولا لإزالة شيوعه بالمزاد العلني أو السري، لأنه مؤلف من ألفين وأربعمائة سهم، في كنانة واحدة ومحفظة واحدة قوتها في حزمتها، فمن يحاول نثرها، صار مرمى نصال مسمومة.
سيدنا الحسين، أبو عبدالله، سيد الشهداء، رضي الله عنه وأرضاه لم يكن مجرد إمام او قائد أو مقاتل في سبيل الحق، بل هو مسيرة وعبرة للانسانية، اجتمعت عنده الصفات، وطأطأت له الظروف، ليكون علامة في رسالة الإسلام ومحطة تأمل وإعتبار للانسانية.
في سيرة ابن هشام أن أبا طالب اصطحب معه محمد اصل الله عليه وسلم، وهو ابن تسع في تجارة إلى الشام، فلما نزل الركب بصومعة بحيرا قرب بصرى، سأل الراهب أبا طالب عن الصبي من يكون؟ فأجاب: انه ابني، فقال بحيرا ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا.
ولقد حرم الرسول من حنان امه ودفئها، ولم ير أباه قط، ودمعت عيناه وجزع قلبه على أبنائه الذكور، ولا أرى في ذلك كله إلا تدبيرا إلهيا ليكون النبي صاحب النسب الشريف، أميا، يتيما، بلا عقب عصبة. فلما جاء الحسن والحسين وإخوتهما ذهب كل ما في فؤاده عليه السلام من محبة البنين، وهو مشوق الفؤاد،إلى الذرية من نسله؛ كان عليه السلام لا يطيق أذى أي منهم، ويروى أنه مر ببيت فاطمة الزهراء رضي الله عنها، فسمع الحسين يبكي فقال: "ألا تعلمين أن بكاءه يؤذيني"، فاذا كان دمع الحسين قد آذى رسول الله، فما بالكم بدمه الذي ما زال يطل من شرفة الجرح على الضمائر والدهور.
رزق
ثم كانت كلمة للوزير السابق رزق الذي قال: "منذ بداياتها، حملت العاملية رسالة النهضة اشهرت انتسابها الى جبل الايمان والامانة، جناح لبنان الخفاق، حضورا وانتشارا في الاربع الرياح.
بعد ثلاث وخمسين سنة، من اولى وقفاتي ههنا، يغبطني ويشجيني ان استعيد واقعة رمزية اسست لعلاقة تاريخية، كانت لتضاف الى انعامات الحياة علي، لولا مشاركتي، يومذاك في احياء الوقيعة:
غداة عاشوراء الموافقة الثاني من حزيران عام 1963، اعزني الامام الغائب الحاضر، السيد موسى الصدر، الذي سمع كلمتي عبر الاذاعة اللبنانية، باتصال هاتفي من صور، مباركا اسهامي المتواضع في مجلس العاملية، مثنيا على روح اللبننة التي سادت الاحتفال، تأكيدا لشمولية البعد الانساني في شهادة ابي عبد الله، اله وضحية، تجاوزها الفئوية وعصمتها على التصنيف، دينا وسياسة، ثم حرص سماحته، على تشريفي بزيارة اكبرتها، لتبادل رأي وتأكيد شراكة موقف، وفي ذمتي الاضاءة على بعض ما تداولنا، تعميما لفكر نير، واقتداء برجل خير، لا يمكن محو سيرته ومآثرته، مهما طال الزمن".
وتابع: "يومذاك كان من اولوياته، اصدار قانون انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، عربون دمج متكافىء، لا فصل متمايز، وسبيل انفتاح يحول دون اي انغلاق او تقوقع، تحصينا للوحدة الوطنية والجمهورية توطيدا.
تحدثنا في الدين والماورائيات، في الثقافة والدنيويات في القبلية والقومية، وتلاقينا على مكارم الاخلاق ضمانا للشراكتين: الوطني والانسانية، مالا نزال نحلم به ونسعى اليه اليوم، في مواجهة عوامل التفرقة، معادلات الاستقواء والاستضعاف، وهواجس الطغيان، تحررا من عقد الفوقية والدونية المزمنة، حيث كل يدين الاخر، يكفره يسقه الرأي المخالف يستبح حق المختلف ويهدر دمه، متناسين انه تعالى، لو شاء لجعل الناس انه واحدة، لا قبائل وشعوبا، فما بالنا بعد ان ساوى نفرق بين رسله وانبيائه، وحتام انظمة التخلف، العنف القمع والالغاء، لاحكام السيطرة على هذا الكوكب، فيما ابى سبحانه ان يكون احد على الناس بمسيطر فكيف بنا ندأب في الكتب تحريفا، للاديان نقضا، نمعن في تهديم المجتمعات ودك الحضارات بدعوى تقويض الهي لطمس بشارة ومحو تنزيل؟ وما تراه من كل ذلك، البديل؟".
وأردف: "لقد نشأنا في مناطق لبنان، اخوة احباء، شركاء متساوين، بعضنا لبعض اولياء، ذوو قربى ومودات، نصلي على محمد نبيا، ونؤمن بالمسيح فاديا، طعامنا واحد، للكل حل ارضنا عصبية على القيمة، منيعة على الغزو والاحتلال، صامدة تقاوم العدوان، تبدع الملاحم، تأبى المذلة، تعلم العنفوان، نؤمن باله واحد، ضابط الكل، رحمن رحيم، لغتنا الضاد، محفوظة في مناسكنا، تختال على قممنا وتزهو، شعرا ونثرا، بلاغة قدسية النهج، وبيانا جمالي النفحات كمثال معالي النقيب الرشيد، مئنافا دفاقا، ورفيقا شهما مصداقا على منابر الوفاء".
واضاف: "ان ملحمة الحسين، موروث انساني، ما برحنا ندعيه لانفسنا، كمثل ما به تأسون، نشارك فيه مجلس تبريك وتكريم، لا مجرد عزاء وتفجع، مناسبة تلاق لا مواجهة، لدفن احقاد لا تصفية حسابات، انه يوم للعظة، لعل الذكرة تنفع مؤمنين.
من عمق الحزن، قلتها مرة وأعيد: ان العاشر من محرم، عرس الحسين لا مأتمه، فيه زف ورعيله الى الجنة، فحق لشيعي ومتشيع ان يبسمل ويحمدل، وليس لاي ان ينادي بثأر، يوري زندا، يوتر قوسا، او يضغط على زناد ولا ان يدعي تكليفا".
وختم رزق: "لنقولنها حاسمة صراحا: ان البعد العاشورائي هو السعي الى الاصلاح لا طلب الولاية، لان السلطة الحقيقية، المطلقة والشاملة هي الروحية المعنوية، بمضمون القيم النابضة في القلوب محبة، المالئة النفوس ثقة ويقينا، ايمانا برب العالمين مالك يوم الدين، التواب سيدي الثواب والعقاب، وحده، لا شريط له ولا وكيل بل وديعة كتب بشارة وتنزيلا، تلك هي السلطة الحقيقية وان مضرجة بدمها عطشى او دفينة تحت التراب".