كأنَّ رغبةً ملحَّة تسكنُه إزاءَ التّلميحِ الوَعظيّ واستباق الخلاصات التي يصبو إليها، يدخل بنا سامي معروف إلى صَفحات روايتِه الأخيرة (فَطير الشَّرق) الصّادرة عن دار سائر المشرق للنّشر والتوزيع لعام 2019 وهو يفتح مروحة واسعة من الأحداث والتَداعيات، ممّا يجعل دائرة التحدّي والمسؤوليّة تنمو وتكبرُ مع اتّساع مدارات العَمَل الفنّي، حيث يقدّمُ شَخصيّاتِ روايتِه عبر أكثر من واجهة. أوَّلاً في صَوت الرّاوي العليم الذي لا يكتفي بمعرفة بواطن الأمور وإنّما يهيّئُ إحساسَ القارئ لرؤيتِهِ الخاصّة، ويصادرُ رأيَه وتوقّعَاتِه لما يَلي. ثمَّ الدّهشة التي يترَصَّدُها في فصولِ السَّرد، وخاصَّة عندما يصَرّحُ الرّاوي عن حِكايتِه منذ البَداية: "التي بدَأتْ حُلُمًا وانتهَت كابوسًا"، بحيث يستبقُ مشهدُ الاغتصاب الذي هَلَّ في الفَقَراتِ الأولى بتوَجّسٍ من خطرٍ قادم قبل أن يعيَ القارئ الحدَثَ القادم برسمِه لشَخصيَّةِ زهير المرائية ونظراتِه المشابهة لنظرات وَحشٍ نحوَ فريسته، قبل أن يفعلَ فِعلَتَه. لتتحوّلَ بالتّالي قصَّة الحُبّ الملوَّنَة إلى مأساةٍ تصل بالعاشقة المغدورة في نهايةِ المطاف إلى الانتحار، وليحملَ أخوها "غازي النمّار" بطلُ الرّواية الرَئيسيّ عِبءَ حِملٍ ثقيلٍ من الثأر والانتقام. فيجدُ غازي نفسَه أخيرًا متورّطًا في جَحيمِ صراعات المجتمع التي قذِفَ إليها رغمًا عنه، ليفتحَ الرّاوي البابَ من هذا المدخل على هموم الأزَمة الطائفيَّة التي عصَفَت ببلدِه أثناءَ الحَربِ الأهليَّة والتي تهبّ رياحُها على المنطقةِ كلّها، والوضعِ السّياسيّ المعَقّد في لبنان واغتيال الشّهيد الحَريري وما اعتبرَه 11 أيلول آخر في الشّرق الأوسَط، كتاريخٍ مفصَليٍّ في الأزمَة المركَّبَة، ممّا جعلنا نفهم التَّحليلَ المباشر للأحداث بدون أيّ توريَةٍ أو مجاز، وكأنَّ السَّردَ يتحوَّلُ إلى تقريرٍ إخباريٍّ في أحدى محطّاتِ البَثِّ الإذاعيّ. وبغَضّ النّظَر عن رأي القارئ بما جرى أو يجري عمومًا، لكنَّ الأمرَ جعلنا نشعرُ بأنّنا خرجنا عن مفهوم السَّردِ كفكرةٍ، وإن كانَ الرّاوي يَهدفُ ليقدِّمَ بُعدًا واقعيًّا لأبطالِهِ بالتّفاصيل الدَّقيقة لمَكائدِهم وصراعاتِهم وجرائِمهم. ثمَّ مَشهَديّاتُ الحَربِ وكيفيَّة طَحنِها لكلّ ما يمرُّ في طريقها، مَن لها ومَن معها ومَن عليها.. في زمَنِ الانتماء الطائفيّ وهو الانتماء الوحيد المقبول كمَلاذٍ وهويَّة في مجتمعاتٍ تركض إلى الوراء. وهذه الوَضعيَّة جعَلَتْ أسرةَ غازي النمّار المتشَظّية بين الطوائف منبوذَةً من كلّ الأطراف كونَها مؤلّفةً من أبٍ سنّيٍّ وأمٍّ شيعيَّة في حَربٍ أهليَّةٍ دارتْ رحاها بين الأحزاب حتى ضمنَ الطّائفة الواحدة. ولا ينسى الرّاوي في خضَمّ ذلك كلِّه أن يعرّجَ على العدوان الإسرائيليّ الذي ساوى بين الطّوائفِ جميعِها بالقصف والتّدمير. حربُ المخيّمات والحصارُ على الفلسطينيّين وكلّ أزَمَةٍ مغلقةٍ تفَكُّ بحَلِّ أكياسِ الدَّراهم، ومن بابِ الفساد يدخلُ كلُّ شَيْء. إسرائيلُ تلعب دورَ الحَكَم أحيانًا.. وفي أحايينَ أخرى تصوّبُ نارَها على الجميع وهم يقتتلون فيما بينهم، في الوقت الذي تتعدّدُ فيه انتماءَاتُ الفردِ الواحد وتنَقُّلُه بين الحرَكاتِ والتَّنظيمات السّياسيّة. ومع دخولِ إسرائيل على الخَطّ تضيع التّخوم في التباسِ الأقنعَة والرّكض وراءَ لقمةِ العيش، لدرجةٍ يَصعب فيها تأكيد التّهمَة للخائن أو العَميل لأنَّ الكلَّ يصارع الكلّ.
مَجد الخال الكاتبُ الذي يلاحقُ سيرةَ غازي النمّار محاولاً رَصدَ شخصيّتِهِ وتحليل دوافع سلوكِهِ، وخاصّةً عدوانيَّتَه في السِّجن حيث بدا كمختلِّ العَقل، وهو الذي يروم كتابةَ روايةٍ بطلها غازي النمّار، فيتوه في متابعةِ ملفّات محاكمتِهِ والتُّهَم الموجَّهَة إليه، وهو يواكب الظلَّ الآخر للحكاية، وهو ينقِّبُ في ملفّاتِ غازي النمّار ويقع على تفاصيل حياتِه، ومبرِّرَاتِ سلوكِه الذي لم يُضَمّن الكاتبُ فيها أيَّ غموضٍ ليدخلنا في تماثلات الأسطورة، والعُقَد النَفسيَّة (عقدة جوناس وعقدة أطلس) التي يُضيءُ بها على الشَخصيَّة الواضحة. والكاتبُ لا يكتفي بالإيماء بل يصرُّ على شَرحِ وتوضيح كلٍّ من تطابق شَخصيَّة النمَّار مع حكاية المينوثور الأسطوريَّة في مباشرةٍ تصادرُ ذكاءَ القارئ وحريَّة استنتاجاتِه، وقد كان يكفي هنا الإشارة أو التَّرميز للدَّلالة على الفكرة.
العلاقاتُ العاطفيّة، يواجهُها نمطان من الصّعوبات: الخلاف المَذهبيّ وفي الوقتِ عينِه الانتماءَات الحزبيَّة.. في قصَّةِ غرامِ كميل الشّايب واختطافِه لمحبوبتِهِ الصّيدلانيَّة الحَسناء، وتأكيدِه على قذارة الحروب إثرَ مصرعِ كميل مصرع هذه البديهيَّة التي يلتقِطُها القارئُ بيُسر.
أمّا التّجاربُ العاطفيّة التي يعيشُها البطل غازي النمّار، والتي جاءَت بعد عرض حياتِه السّياسيَّة، فكانتِ انعكاسًا لذلك التَشَظّي وفقدان الهُويَّة التي يعيشُها حينًا، وانعكاسًا لحالةٍ ثأريَّة أحيانًا.. فرضَتْها عليه الظّروف في مواقعَ لم يَختَرْها بإراداتِهِ، ورسخَتْ عميقًا في وجدانِه والذّاكرة التي هيّأته ليكونَ ما كان.