السيد سعد الحريري لم يستقل من رئاسة الحكومة اللبنانية حتى يتراجع عنها، او يتريث في المضي فيها بناء على طلب من الرئيس ميشال عون، والا لما عاد الى بيروت اساسا، وبقي في الرياض او باريس، او حاول ترتيب لجوء سياسي آمن في قبرص.
من تابع وقائع تحركاته اليوم، ولغة جسده، وتقاطيع وجهه التي تتناقض كليا مع نظيرتها اثناء قراءته خطاب استقالته من استديو محطة “العربية” في الرياض قبل اسبوعين، يدرك جيدا ان الرجل استعاد حريته، وقرر اختيار المواطنة اللبنانية على نظيرتها السعودية، واحترام الصفقة السياسية مع “حزب الله” والتيار الوطني الحر (حزب عون) التي اعادته الى رئاسة الوزراء قبل عام.
السيد الحريري كان في قمة السعادة وهو يشارك في احتفالات عودته وعيد الاستقلال اللبناني وسط انصاره ومحبيه الذين بات يشكل رمزا وبطلا شعبيا في نظرهم، فمن يتحدث عن تهديدات تشكل خطرا على حياته ودفعته الى مغادرة لبنان، مثلما جاء في خطاب استقالته، لا يمكن ان يظهر وسط الجماهير، ووسط حراسة بسيطة، بالطريقة التي شاهدناها.
***
لا نجادل مطلقا بأن الاسلوب الدبلوماسي الذي اتبعه بالتريث في المضي قدما في استقالته، كان من ترتيب الدولة اللبنانية العميقة التي لا تريد التصعيد واحراج الرجل بالتالي، ورش المزيد من الملح على الجرح السعودي النازف، وتطويق الازمة، وتقليص الخسائر اذا امكن، مضاف الى ذلك ان الرجل، اي الحريري، ليس رجل المواجهات والصدامات، ويريد ان يبقي شعره معاوية مع داعميه السعوديين، رغم ما تردد من حجم الاذى والاهانة اللذين لحقا به طوال الاسبوعين اللذين قضاها محتجزا في الرياض.
اذا كان الرئيس عون ابدع في ادارته للازمة، وتحلى بأعلى درجات ضبط النفس، كان في الوقت نفسه شجاعا في تسمية الاشياء بأسمائها، واصر على تهمة “الاحتجاز″ دون تلكؤ، فإن السيد الحريري تصرف بكل حكمه عندما انحنى امام العاصفة، ولبى مطالب محتجزيه، ليس موافقة، وانما لادراكه ان هذا المسلسل اللاعقلاني ينتهي نهاية سعيدة لصالحه في نهاية المطاف، ولكن هذا لا يعني ان لا يتحلى الرجل بالشجاعة، ويخرج عن صمته، ويكشف الحقائق دون مواربة، لانه لا يمثل نفسه، وانما مؤسسة وشعب لبنانيين عريقين.
***
منذ اللحظة التي تخلى فيها السيد الحريري عن “السكسوكة” السعودية، واستبدالها بإطلاق لحيته كاملة على الطريقة التقليدية المتبعة، وقرر الدخول في تحالف مع “حزب الله” و”عون” من اجل انهاء ازمة الحكم في لبنان قبل عام، بات واضحا انه قدم مواطنته اللبنانية على نظيرتها السعودية، وقدم السلطة وخدمة استقرار بلاده على المال وصفقات “البيزنس″ بعد ان ضاق ذرعا بالمضايقات واعمال الابتزاز.
هل يصمد السيد الحريري في بيته اللبناني الذي عاد اليه، وهل زالت الاخطار التي تهدد حياته بعد هذه العودة، ام انتقلت من جهة الى اخرى؟
يصعب علينا الاجابة ليس لصعوبة الاسئلة، وانما ايضا لاننا ما زلنا في المشهد الاول من الفصل الاول من هذه المسألة، ولكننا نجزم بأن السيد الحريري اقدم على الخيار الاسلم والاصوب عندما قرر ان يكون لبنانيا اصليا.. والله اعلم.