"الشِّعر علامَة من علاماتِ الحَياة.. وإذا كانتِ الحياة تتَّقد، فالشِّعرُ رَمادُها"، ذلك هو تعريف الشَّاعر والرِّوائي الكندي ليونارد كوهن للشِّعر.وهو بتعريفِهِ هذا جعَلَه مُساويًا للوجود.
وأمَّا الشّاعر محمّد علي شمس الدّين فقالَ بأنَّ الشِّعرَ أعظَم منَ الحَياة! وهو يَعني أنَّه خَلقٌ متجدِّدٌ منَ العدَم. ولكنَّ أدونيس اكتفى بأنَّ الشِّعر هو ميتافيزياء الكيان الإنسانيّ، وصنوٌ للفلسفَة.. بحيث أنَّ لعبةَ الشِّعر في جَوهرِها بَحثٌ سُقراطيّ عن معرفةِ الذّات. وهكذا الشِّعرُ أمّا رَديفٌ للحَياةِ أو حاوٍ لها أو ظِلٌّ لصيقٌ بها، ولذا فهو حَيٌّ طالما هناكَ حَياة! وهكذا نرى الشِّعرَ وافدًا إلينا، كالنَّسرِ الذي جدَّدَ أرياشَه وقلَّمَ منقادَه وأظافرَه في عُزلةٍ مؤقَّتة، فبَرَزَ مُحلِّقًا في فضَاآتِ السّوشَل ميديا حاملاً معه كلَّ طريفٍ مُبتكَر. هي الصَّفَحاتُ الرَّقميَّة المذهلة التي تنشُرُ لقارئيها يوميًّا آلافَ القصائد من مدارسَ ومذاهبَ شَتَّى: فصحًى وعاميَّة، زَجَلاً ومِنبَريّات، العاموديّ والحُرّ، المَنظوم والمنثور، غزَلاً وفلسفةً ووَطنيَّات، والأصيلَ منها والهَزيل. أهي ثورة شِعريَّة أم طفرَة آنيَّة زائلة؟ أو هو نوعٌ منَ الأدَبِ الحَدَاثيّ وجَدَ له فوقَ المساحاتِ الرَّقميَّة أعشاشًا أكثرَ دِفءً وتفاعلاُ معَ القارئ، بَعيدًا عن جَبَروتِ الدَّوَاوين الوَرَقيَّة وَهَيبَةِ الأنديَةِ الثقافيَّة. هذا ومنَ الشُّعَراء الرَّقميِّين شُعَراءُ تقليديُّون جَهَابذة! وإذا رأى بعضُ المُتحفِّظين في هذه العاصفةِ الصَّاخبَة على مواقِعِ التّواصل الاجتماعيّ اقتلاعًا للجُذورِ وعبَثًا بالأصول، فالمُغامرون الشُّجعان يرونَها بدايةَ عَصرٍ أدبيٍّ جَديد مُشرَّعةٍ شرُفاتُه على احتمالاتٍ حَداثيَّةٍ خلاَّقةٍ لامتناهيَة. والخبيرُ الرُّوسيّ في شؤونِ الشِّعر الحَديث تودوروف، في معرض نقاشِهِ للحَداثة يقولُ مَجازيًّا، بأنَّ الحدودَ التي تفصلُ بينَ ما هو شِعريّ وغير شِعريّ أقلّ استقرارًا ممّا هي عليه التَّقسيماتُ الإداريَّة في الصّين! والمَعنى هنا صعوبةُ الارتكاز إلى منظوماتٍ ثابتةٍ جامدَة تؤطِّرُ الشِّعر. فالشِّعرُ رُوحٌ أكثر ممَّا هو قاعِدة، وكثيرةٌ هي تقمُّصاتُ الرُّوحِ الشِّعريَّة! وبالتّالي فقد رأى الشُّعرَاءُ الرُّوس المتأخِّرون الشِّعرَ في كلِّ شَيْء.. في بطاقةِ أنواع النَّبيذ، وفي لائحةِ ثيابِ القيصر، وفي فاتورةِ المَصبَغَة، وفي جَدَاولِ التَّصريفاتِ النَّحَويَّة.. إلخ. وهذا يجعلُ الامكانيَّةَ الشِّعريَّة طاقاتٍ دائمةَ التَفجُّر. ومعَ أنَّ الأدَبَ الرَّقمِيّ الرَّاهِن يفتقدُ إلى النَّقدِ العِلميِّ المُنظَّم والتَّصحيحِ والتَّنقيح والمُراجعَة، وهكذا البداياتُ دائمًا، إلاّ أنَّ العاصفة تؤكِّدُ أنَّ الإنسانَ يتنفَّسُ حُريَّةً وشِعرًا في هذا الزَّمَن.. زَمَنِ انكِفاءِ القِيَم وجُموحِ المادَّةِ والسُّوقيَّة، زَمنِ شبُوبِ المَعلوماتِ والتَّعقيدات، زَمَنِ الانسانيَّةِ المُرهَقةِ المُحَاصَرَة، فيجِدَ له في قطعةٍ غَزَليَّةٍ على الموبايل نافذًا إلى حديقةٍ هادئةٍ يستريحُ فيها لدقائقَ من صَخبِ يومٍ لاهث. وقد يكون الشِّعرُ مطلوبًا اليَومَ أكثر من أيِّ وقتٍ مَضَى! بسبَبِ ديناميَّةِ العبَثيَّاتِ التي خلَّفَت أمامَ الذَّاتِ دُروبًا مُضنيةً كأنَّها الجَحيم. فإذا بالنَصِّ الأدَبيِّ القصير على الموبايل أقحُوانةٌ طيِّبةُ العِطر في وسطِ هذا الجَحيم. وبالتالي فالشِّعرُ حاجَةٌ حاجةَ المَريضِ إلى الشِّفاء، والمُتعَبِ إلى الرَّاحة، وخالي القلبِ إلى الحُبّ. من هنا يقول نوفاليس: "الشِّعر يداوي الجراحَ التي يُحدثُها العَقل"، ويقصدُ هنا السَّلبيَات التي أفرَزَها العِلم. وكذلكَ ستيفان مالارميه: "إنَّ مَهمَّة الشِّعر هي تنظيفُ واقِعِنا المتَخثِّر بواسطة الكلمات، عبر خَلقِ فضاآتٍ من الصَّمت حَولَ الأشياء". وأمّا بودلير فوصفَ الإنسانَ الشَّاعِريَّ بأنّه: "سعيدٌ هو من يُحلِّقُ فوق الحَياة، ويعي بلا عَناءٍ لغةَ الزُّهور والأشياءِ الصَّامتة". وإذا كانَ الشِّعر قد حَجَزَ لنفسِهِ في العالم الرَّقمِيّ.. فهو بذلكَ عانقَ المُستقبَلَ معَ كلِّ تداعياتِه، وطبَعَ على صَحَائفِهِ المُبْهرَة، منذ اللَّحظَة، آثارَه التي لن يمحوَها غيرُ فناءٍ كاملٍ للهَرَميَّةِ الرَّقميَّة. وتتميَّزُ الشِّعريَّةُ الرَّقميَّة عُمومًا بـ:
1) سُرعَة النَصّ: أي سُرعة الوصول إلى المُتلقِّي، ومن غير وساطَةِ النّاشر والمُوزِّع ودَعمِ حَفل التّوقيع وتَرويجِ النَّدوَاتِ والمَقالات. فبَعدَ فراغِ الشّاعر من قصيدتِه بثانيةٍ واحِدَة يكون النَصُّ قد أصبَحَ على شاشَةِ المئات والآلاف من القُرَّاء. السُّرعة حاضرَةٌ في الكتابةِ والنَّشر والقراءَةِ أيضًا. وإذا أعجبَ النَصُّ القارئ يعملُ له "مُشاركة" على موقِعِه ليعودَ فيتمَعَّنَ به لاحقًا، أو ليَتزيَّنَ به.
2) الإيجاز والكثافة: والقصيدة ليست قصَّة قصيرَة ولا هي بالمَقالة.. إنَّها نَصٌّ يُقرأُ في دقائق. إلاَّ أنَّ النَصَّ القصيرَ بات سِمَةَ الكِتابَةِ على السّوشَل ميديا. وهذا يعكس واقعَ العَصر. فمِن الملحمَةِ إلى القصيدةِ الطّويلة وَالقصيدة القصيرة ثمَّ المقاطع فالسَّطرَين حتى الفكرَةِ الواحدَة الوِامضَة. ومعَ كونِ القصيدَة/الوَمْضَة لا تملكُ مُستوعِبًا كافيًا لتدَفُّقاتِ الموسيقى والعاطفة، ولا تفصيلاً للتَّجربَةِ الإنسانيَّة، إلاَّ انَّها نوعٌ إبداعيٌّ حقَّقَ فتوحاتٍ عَظيمَة في الصُّوْرَةِ والمَوضوع. لم يعُدِ الشَّاعرُ أميرَ البَلاغةِ والفَصَاحَةِ المَعجَميَّة والقوافي الطنَّانةِ الرَنَّانَة، ولكنَّه أصبَحَ جُرعَةَ ماءٍ باردٍ في يَوْمٍ لاهب، وَ"قصيدَةَ جَيْبٍ" على موبايل القارئ يرشُفُ شذاها في معركةِ يوميَّاتِهِ فتنتعشَ روحُه. أو هي صورةُ عَزيزٍ في جُعبَةِ الجندِيِّ في قلبِ المعركة، ينظرُ إليها بين الفَينةِ والأخرى فيتعَزَّى بها ويتقوَّى. 3) الطَّرَافة والتَوَهُّج: لقد ابتعدَتِ القصيدَة الرَّقميَّة عنِ الكثير منَ المَوضوعات التقليديَّة، لتستنبطَ لها في أيِّ مَشهدٍ يوميٍّ عاديّ "قَفشَةً". وهي في ذلكَ، ترومُ الجِدَّة، وتبحثُ عن وسيلةٍ لشَدِّ القارئِ البَرِمِ بالمَوروثات. وللطّرافةِ المَمزوجَة برُوحِ الفكاهَة وَقعٌ بليغ.
4) فينيق الوَطنيَّات: والعَصرُ عَصر حُرُوبٍ وثوراتٍ وصراعات وتغيُّرات. والسّوشَل ميديا خيرُ منبَر لبَثِّ روح الثَّورَةِ والكِفاح في الجَماهير. والوَطنيّاتُ حاضرَة في السّوشَل ميديا شِعْرًا تقليديَّا وحُرًّا وحَديثًا وفائقًا للحَداثة. فخلعَتِ الأنواعُ الشِّعريَّة جميعًا أثوابَها القديمَة، وبرَزَتْ من كواليسِ النَّمَطيَّةِ حَسناواتٍ فاتناتٍ يَخطرنَ بجَمالهنّ فوقَ مَسَارحِ الرَّقميَّة.
5) التَّراسُل الفِكريّ: والنَصٌّ الشِّعريّ لم يَعد فقط شاعرًا ومُتلقّيًا، وإنّما راحَتِ القصيدَةُ تُنجبُ قصائدَ، وتولِّدُ نقاشًا وخواطِرَ وتداعياتٍ للأفكار وآراءَ نقديَّة. والقصيدَةُ هي الأخرى، كما النَثر، نَصٌّ ترَابُطِيّ.
6) الدَّور الفعَّال للمَرْأةِ المُتذوِّقة والمُنتجَة للنَصّ: وهيَ لا تهوى منَ الشِّعرِ غيرَ غزَلِهِ عمومًا. وهذه الهَجمَةُ النّسائيَّة على الكتابَةِ العاطفيَّةِ حفَّزَتْ قرائِحَ الأصيلينَ والمُتَشاعِرين أن يُنتِجوا في الغَزَل. وإذا كان الفيسبوك مُلتقى العُشَّاق! فهو مُلتقى العشَّاقِ الشُّعَراء أيضًا.
7) المَجموعات الأدَبيَّة: وبرأيي أكثر ما يخدمُ الشِّعر هو هذه المَجموعات الأدبيَّة المنتشرَة بصورةٍ لافتة شَرقًا وَغَربًا. وفائدتُها نقديَّة بامتياز! وهي بالتَّأكيد بدايةُ نقدٍ أدَبيٍّ جَديد. ففي هذه المَجموعات غَرْبلةٌ لِلصَّحيحِ منَ الكَسيح، والشَّريفِ منَ الضَّعيف، والرَّخيمِ منَ الذَّميم.
8) التَنافسُ العَلَنيّ: ومنبرُ السّوشَل ميديا هو عُكاظُ الحَدَاثةِ الرَّقميَّةِ الفائقة. ينشرُ فيه الشّعَرَاءُ قصائِدَهم لبعضِهم بعضًا، ويتبارون لإنتاج الأفضل.
9) إستلهام المَرئيَّات، الصُّورَة والحَرَكة: ومعَ كونِ المَرئيَّاتِ تُضعِفُ قوَّةَ القصيدَة! لأنَّ الشِّعرَ الحَقيقيَّ الأصيل هو خَلقُ الصُّورَةِ والحرَكة بواسطةِ الكلمات، أي بالفِكرِ وَالتَّخيُّل. وبالتّالي فمُساعَدَةُ الصُّورَة أو الفيلم القصير للقصيدَة قد يُبَرِّدُ، قليلاً أو كثيرًا، توَهُّجَ القَصيدَةِ وَشُعاعاتِها. ولا ننكر أنَّ هناكَ موهوبين خَلاّقين في هذا المَجَال.
وهكذا أرادَ الشِّعرُ أن يخرُجَ من بلاطِهِ السّامي المَهيب الذي قبعَ فيه مئاتِ السِّنين مُبَجَّلاً مُؤلَّهًا، وتواضَعَ.. وتنكَّرَ بالرَّقميَّةِ وَلبسَ ثيابَ العامَّةِ البَسيطَة.. وراحَ يسيرُ جنبًا إلى جنب معَ ألَمِ الإنسان وتجاربِهِ اليَوميَّة. وكانَتْ هناكَ عَشراتُ السِّنين تفصِلُ بينَ الطّفَرَاتِ الأدَبيَّة.. فإذا بالعِلمِ وثورتِهِ المَعلوماتيَّة يَصنعُ طفرَةً في الأدَبِ تُساوي الطَّفَرَاتِ السَّالفة مُجتمِعَةً. وإذا كانَ الشِّعْرُ قد رَحَلَ ليَحُلَّ الرَّاديو مكانَه كما قال نجيب مَحفوظ في أيَّامِه، فهو اليَومَ عادَ إلينا حاملاً الموبايل بيَمينِهِ، وصفَحَاتِهِ الجَذَّابةِ المُبْهرَة.