لولا رقعة ضيقة عند مستديرة عاليه، يتوافد إليها المحتجون كمحطة ثابتة متاحة لمواكبة المتظاهرين في لبنان، لبدا الجبل خارج الحدث وبعيدا من إيقاع الزمن الراهن.
تضييق ورحيل
فمن كانوا يملأون الساحات والمطارح قبل سنوات عدة، يعيشون اليوم مترددين بين غاضب وممتعض، وآخر مذعن وخائف. أما من خرجوا من عباءة الزعامة، فقلة أضفت بعضاً من حيوية في جولات سريعة من قطع الطرق، قبل تواريهم بعيدا من الأنظار. ومن ضُيقَ عليه رحل، صار جزءاً من الحراك الأوسع في بيروت وساحاتها.
حذر وحركة متواضعة، بلا صخب. فالتوجس حاضر بعد تجربة الأيام الأولى، يوم خرج الناس و"قُمعوا بتهذيب" حيناً، ومشادات وإشكالات أحياناً. خصوصاً من رفضوا المشاركة في التظاهرة "التنفيسية" التي قادها "الحزب التقدمي الاشتراكي"، ووزير التربية أكرم شهيب، من مستديرة الكولا إلى ساحة الشهداء.
قمع مبطن
بدا الأمر أن ثمة توجهاً لدى "الاشتراكي" بعدم الانخراط في التظاهرات من جهة، وعدم التصادم مع الناس من جهة ثانية. لكن لم يخلُ الأمر من تجاوزات وضعت الحزب في مواجهة جمهوره أولاً، والمواطنين تالياً. على الرغم مما توالى من بيانات نفي واستنكار تجافي الواقع وتنأى عما هو حاصل ويحصل في مختلف القرى والبلدات من عاليه إلى المتن الأعلى والشوف.
من يتفقد مناطق الجبل يتأكد من أن أحداً أوعز وطلب عدم المشاركة. وهذا ما بدا جلياً بدءاً من منطقة بشامون. فيما خلدة ومداخل الشويفات مشتعلة احتجاجاً وقطع طرق، ظلت القرى والبلدات صعوداً حتى عاليه، هادئة وكأنها غير معنية بما يحصل في سائر المناطق. وهذا يؤكد أن "الاشتراكيين" يواجهون أزمتهم مع كل تبعات موقف قياداتهم، ويعيشون غربتهم عن وجع الناس، وما زالوا أسرى التردد بين السلطة والشارع.
شبان ومشايخ
عند مفترق الطريق الدولية في ضهور العبادية بين عاليه وبحمدون، كان ثمة شبان عشر يحرقون إطارات، بينهم عدد من رجال الدين الدروز. حاولوا منعنا من التصوير. وبعد مشادة اعتذروا قائلين: "نحن خائفون من الأحزاب، ولا نريدهم أن يتسللوا ويندسوا بيننا، يكفينا مشاكل". لم يسموا هذه "الأحزاب"، ونحن لم نسأل. لكن ثمة بينهم من أخفى وجهه مداراة لظروفه الخاصة. ليس خوفاً من القوى الأمنية، التي كانت حاضرة وتؤمن مرور السيارات، تاركة للمحتجين أن يعبروا عن سخطهم، شريطة عدم قطع الطريق بالكامل.
الجيش يحمي المحتجين
مدينة عاليه لا تشبه النبطية وصيدا وصور وطرابلس، ولا مناطق أخرى تخطت خطوطها الحمر. شوارع عاليه هادئة شبه خالية، باستثناء تجمع ثابت ووحيد برعاية أمنية وحضور أمني مكثف. وهذا يعكس هواجس ماثلة من تردد "الاشتراكي"، يؤكده وجود عناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بأعداد تكاد تكون موازية لعدد المعتصمين. وخصوصا بعد إشكالات الأيام الأولى، التي سجلت تجاوزات عدة.
فعلى سبيل المثال رفع أحدهم الصوت مردداً "كلن يعني كلن"، فهجم عليه شبان غاضبون، ما استدعى تدخل الجيش وحمايته. وثمة أمثلة كثيرة أيضاً، ما أفضى إلى اتساع الهوة بين "الاشتراكي" وجماهيره، وبينهم بعض الحزبيين والمناصرين.
وشائعات لتخويف الناس
وثمة من يسوق أخباراً ومعلومات لثني الناس عن التظاهر. ووصلت إلى المواطنين رسائل نصية عبر "واتس آب" تحذر من أن "التظاهر سيؤدي إلى سيطرة حزب الله على البلد"، وأخرى تقول إن "التظاهر على طريقة حزب سبعة سيجر لبنان إلى حرب أهلية"، وما إلى ذلك من "اجتهادات" تهدف إلى محاولة امتصاص نقمة الناس.
وسط هذا المشهد بسورياليته وتناقضاته، كانت وسائل التواصل الاجتماعي المعبر الأصدق والأكبر عن جملة من الهواجس والأفكار. وهذا ما يسترعي الإنتباه: "اشتراكيون" عبروا جهاراً عن رفضهم موقف حزبهم. فكتب أحدهم "أمام هذه الصورة الناصعة التي جسدها اللبنانيون ستتحقق أهداف الشهيد المعلم كمال جنبلاط، لكن للأسف لسنا نحن من سيحققها".
استقالات اشتراكية
في المقابل، وجه كثر رسائل إلى رئيس الحزب وليد جنبلاط، معلنين تجميد عضويتهم ومطالبين بخروجه من الحكومة والسلطة. وحيال ذلك، يبقى واقع الجبل مشرعاً على احتمالات عدة. يدرك جنبلاط أنه في لحظة ما، قد يفقد السيطرة على جمهوره، وخصوصا إذا استمرت التظاهرات بوتائر أكبر، وصولا إلى عصيان مدني. مع الإشارة إلى أن المئات من "الاشتراكيين" يواظبون على المشاركة في اعتصامات وتظاهرات، وإنما بصفتهم الشخصية!